من فضائل الربيع العربي أنه حرّر الإنسان والبلاد والمؤسسات من سطوة الاستبداد، ومنها المؤسّسة الدينية نالها على يديه ألوان من العَنَت، ويأتي على رأسها معالم عريقة كجامع الأزهر وجامع الزيتونة.
· “الأزهر” يستردّ شرفه: شعرت وأنا أرى الشيخ القرضاوي يخطب على منبره لأوّل مرّة في حياته أن الأزهر قد استردّ شرفه الذي انتزعته منه سياسات النظام العسكري الاستبدادي منذ انقلاب 1952، وهذا ما يليق بمعلم شامخ بناه الفاطميون لنشر البدعة فأبى إلاّ أن يكون صرحًا للسنة…لقد كتبتُ منذ سنوات مقالا بعنوان ” الأزهر الذي كان شريفا” تأسفت فيه لما آل إليه الجامع العريق من أداة باهتة تعبث بها السلطة الاستبدادية على مدار عقود حتى أصبح – ولو بطريقة غير مباشرة – تابعًا للجنة سياسات الحزب الوطني الحاكم سيئة الذكر، وكان قبل ذلك قد خضع لعملية جراحية نُعتت بالتجميلية لكنّها في حقيقتها تشويهية كان الهدف منها تقبيحه للرأي العام الإسلامي ونزع التميّز عنه وتهميش دوره بإفراغه من محتواه التربوي والعلمي المؤثّر في الدولة والمجتمع، وقع ذلك تحت غطاء ” إصلاح الأزهر” عام 1961 على يد طاغية متجبّر عُرف بعدائه الشديد للدين عامة والإسلام بصفة خاصّة، وبقي الأزهر يرزح تحت نير التهميش والتوظيف السياسي المُغرض إلى أن جاءت ثورة 25 يناير المباركة فشرعت في تحريره شيئا فشيئا، فعادت هيئة كبار العلماء وضمّت في صفوفها – إلى جانب جمهرة من أساطين العلم الشرعي - العلامة القرضاوي بعد أن كان مُبعَدا من الأزهر رغم أنه خرّيجُه وابنه، وتتوجّه المساعي حثيثة نحو تداول منصب شيخ الأزهر بالانتخاب بدل تعيينه من قبَل رئيس الدولة كما كان الأمر منذ عقود، وهذه خطوة جريئة وجدية طالما طالب بها علماء مصر لأنها كفيلة بضمان استقلال المؤسسة العلمية الدينية البارزة حتى لا تبقى جهازًا إداريًا أو سياسيًا توظفه السلطة الحاكمة لأغراضها الخاصّة، ولا ينسى الناس كم عانى الأزهر الشريف من التبعية المفروضة عليه، ففَقَدَ المبادرة وإمكانية التطوير الداخلي وفُرَص التأثير الإيجابي في المجتمع، فضلا عن التأثير الخارجي المنتظر منه باعتباره المرجعية العلمية الأولي لأهل السنة في العالم كلّه، وإلى زمن قريب كان ممنوعًا من الصدع بكلمة الحق في قضايا السياسة المحلية والعالمية، وقد مُنع روّاده أكثر من مرّة من إعلان التأييد لفلسطين الجريحة حتى في عزّ العدوان الصهيوني على غزّة، فلم يبقَ له ولعلمائه هيبة ولا مكانة قوية إلاّ قليلا من العلماء الفحول الأباة الذين استهدفهم النظام الدكتاتوري بالتضييق والتهميش.
فما أكبر فرحة المسلمين وهم يرون الأزهر يعود إليه شرفُه ويرجع إليه رجالُه ويعتلون منبره ويرفعون عقيرتهم بكلمة الحقّ ويوجّهون المجتمع ويردّون الشبهات والضربات المختلفة الأشكال والمصادر كالعلمنة المقنّعة بصفة المدنية – وللعلمانيّين نشاطٌ لافتُ لجعل الأزهر ينحاز لأطروحاتهم باعتباره وحده ممثّلا للإسلام، وليس لجماعة الإخوان أيّ نصيب في تمثيله، وهي لعبة مكشوفة لا تنطلي على أحد - وكالتشيّع الذي يطلّ بقرنه بوقاحة في أرض الكنانة.
· …والزيتونة كذلك: لقد عانى جامع الزيتونة المعمور أكثر من الأزهر الشريف على يد النظام الطاغوتي البائد، فإذا كان طاغية مصر قد ضيّق على الأزهر فإنّ طاغية تونس قد دشّن عهد الاستقلال بإغلاق الزيتونة نهائيًّا، وقد كان هو الآخر معروفا بعدائه السافر للإسلام، مجاهرًا بذلك منحازًا للعلمانية في أبشع صورها وأكثرها عدوانية، فبقيت أبواب الجامعة العريقة مُغلَقة أكثر من خمسين سنة، أما الجامع فقد أصابه ما أصاب مساجد تونس من تضييق وتجفيف لمنابع التديّن والعلوم الشرعية، وكنتُ كلما زرتُ تونس الخضراء عرّجت على الزيتونة للصلاة فيه فكنت أجدني في غاية الحزن – كما هو حال مرتاديه – ممّا أصابه من تخريب معنوي مُمَنهج، إذ صار ” مكانا للعبادة” – كما يحلو للعلمانية أن تسمي بيوت الله – يُفتَح ساعة من نهار لأداء الصلوات الخمس في جوّ من الريبة والتوجّس ثمّ يعمّه السكون ويُطبق عليه التهميش، أما يوم الجمعة – في عهد بورقيبة وخليفته – فلا تنبعث من منبره سوى خطب لا طعم لها ولا رائحة ولا لون، تُختَم حتمًا بالدعاء للمجاهد الأكبر والرئيس القائد حامي الإسلام والمسلمين !!!
وكم كانت الصدمة عنيفة حين سمعنا تصريح وزير الشؤون الدينية في آخر حكومة بن علي وهو يُشرف شخصيا على مسابقة في السباحة النسوية في الكلية الزيتونية ، فقد قال وهو مبتهج بين فتيات شبه عاريات :” اليوم تخلّصت الزيتونة من عُقدتها” !!!
ودارت الأيام دورتها وذهب الطغيان وعادت الكلمة للشعب فرجع إلى الجامع المعمور الذي أُعيد افتتاحُه في حفل بهيج ليؤدّي واجب التعليم الشرعي الحرّ بعيدا عن المناهج الدخيلة، وواجب الدعوة إلى الله كما عهده الناس، وبقدر ما انشرحت صدور المؤمنين لعودة الزيتونة تضايقَ العلمانيون وملئوا الدنيا ضجيجا وعجيجا خوفًا من ” التطرف والأصولية” على ” القيم العالمية” التي يقدّسونها أي كلّ ما يخالف القيم الدينية والأخلاقية، لكن الشعب احتضن قضية الزيتونة ولا يأبه بالأصوات النشاز رغم قدرة العلمانيّين الفائقة على إعاقة أي مشروع يخدم الانتماء العربي الإسلامي بسبب تواجدهم إلى اليوم – كما في مصر – في مفاصل الدولة ومواطن صنع القرار وخاصّة في الإعلام الذي غدا على أيديهم أداة لاستمرار الأنظمة القمعية التي أطاحت بها الثورات الشعبية.
· الأمل يحدو صروحًا أخرى: تحرُّرُ الأزهر وعودة الزيتونة إلى النشاط بُشرى كبيرة يُنتظَر أن يمتدّ أريجُها إلى صروح إسلامية أخرى لتحريرها من قبضة الأنظمة الشمولية وإعادة بعث الحياة فيها لتضطلع بمهامّ التثقيف العام وتنشيط الدعوة إلى الله من خلال خطاب إسلامي معتدل يجمع بين أصالة المصدر وحداثة الأسلوب، بعد أن كان أسير المخطّطات التغريبية العلمانية التي تسعى إلى تحريفه وإفراغه من محتواه الديناميكي الحيّ بدعوى التجديد، وقد صمد الخطاب الأصيل أمام محاولات التحريف الكثيفة بفضل المساجد في جميع البلاد المستهدفة، هذه المساجد التي ستجد من غير شكّ دعمًا معنويًّا كبيرا من عودة الصروح العلمية الإسلامية الكبرى إلى النشاط والعطاء، إلى أن يلحق بها جامع القرويّين العتيد وجامع بني أمية الدمشقي وغيرهما من معالمنا الكبرى، ويومئذ سينتعش المشروع الإسلامي ويُرغمَ أنف العلمانية العدوانية من جهة، ويحصّن الأمة جميعا والشباب خاصة من نزوات التديّن العاطفي التي كثيرا ما تنتهي بأصحابها إلى الغلوّ والتطرّف فيجد العداء في ذلك مسوّغًا لاستهداف الإسلام ذاته بدعاوى محاربة الأصولية ودعم “التنويريين الحداثيّين”.
ولا شكّ أن المسؤولية الملقاة اليوم على الصروح الإسلامية الكبرى مثل الأزهر والزيتونة أكبر وأثقل، تحتاج رجالا ربّانيّين يجمعون بين العلم الغزير والخُلُق الرفيع والفهم العميق للواقع وما فيه من صراعات وتحديات ليُسهموا في توعية الأمة والنصح لقادتها للتمكّن من استئناف الحياة الإسلامية على أسس متينة لتعطي البديل الموعود والنموذج المأمول.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق