3‏/11‏/2012

العدالة.. قيمة وآلية - سيف الدين عبدالفتاح

أكمل المقال

يقول ابن خلدون «العدل أساس الملك»، وينقل عن أرسطو «العدل مألوف وبه قوام العالم»،  ويتبع ذلك بسنة أساسية «الظلم مؤذن بخراب العمران»، ويقول ابن تيمية «إن أمور الناس تستقيم فى الدنيا مع العدل.. أكثر مما تستقيم مع الظلم فى الحقوق، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة،  ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والاسلام». ومن هنا «فإن العدل واجب لكل أحد وعلى كل أحد، فى كل حال، والظلم مُحرَّم مطلقا لا يباح قط بحال».

هذه المقدمات التى نستقيها من أعلام فى تراث الإنسانية إنما يؤكد على العدل كقيمة كلية ومؤسسة وآلية، ينتصف بها الناس ويقتضى بها الحقوق، وترقى بها الدنيا ويقوم على أساسها العمران، وينهض بها كل إنسان.

فى هذا السياق يبدو لنا من الضرورى أن نشير إلى العدالة بكونها حقيقة أساسية يجب على الثورة المصرية أن تجعلها محور اهتمامها فإذا كان النظام البائد ينطبق عليه القاعدة الخلدونية «أن الظلم مؤذن بخراب العمران»، فإن الثورة كمسار للنهضة واستراتيجية للإصلاح لا بد أن تتأسس على قاعدة من العدل الذى يشكل قاعدة لعمران الدولة والمجتمع والإنسان.

●●●

ومن هنا يبدو لنا ضرورة الحديث عن مربع العدالة الذى لا بد وأن تؤسس لها ثورة 25 يناير:

الضلع الأول يرتبط بالعدالة الانتقالية باعتبارها محاولة الوصول إلى عدالة شاملة أثناء فترات الانتقال السياسى من خلال تطوير مجموعة واسعة من الاستراتيجيات المتنوعة لمواجهة إرث انتهاكات حقوق الإنسان فى الماضى. وعليه فإن هذه الدول مطالبة الآن وقبل فوات الأوان بصياغة إستراتيجية واضحة المعالم لعدالة انتقالية تعيد الحقوق إلى أهلها وتخرج الممارسات للنظام البائد استبدادا وفسادا، إلى حيز الوجود الجمعى، الأمر الذى سيشكل بدوره صمام الأمان لعدم تكرارها فى المستقبل.أحيل هنا الى رسالة مهمة قام بها وعليها طالب علم فلسطينى شرفت بمناقشته «مهند الغصين».

هناك عناصر أساسية يمكن أن تقود لبناء إستراتيجية شاملة للعدالة الانتقالية فى هذه البلدان، وأهمها:

أولاً، لجان الحقيقة: الكشف عن الحقيقة ضرورى لعدة أسباب أهمها مساعدة الوعى الجمعى للوصول إلى حقيقة ما جرى من انتهاكات ومنع حدوثها فى المستقبل وإنهاء حالة التشرذم والجدل بين الشرائح المجتمعية المختلفة حول هذه الانتهاكات. كذلك تعمل لجان الحقيقة على التوثيق لمرحلة مهمة فى تاريخ المجتمع حتى يمنع تزويرها أو إعادة كتابتها مستقبلاً، كما ستساعد على التعامل الأمثل مع مثل هذه المعلومات.

ثانياً، المحاكمات: ضرورة إجراء محاكمات عادلة ضمن إطار القانون مواكبا للثورة،  هذه المحاكمات ضرورية ليس فقط عندما يتعلق الأمر بانتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان ولكن أيضاً من أجل تعزيز مبادئ المراقبة والمحاسبة والمساءلة فى مرحلة يستعد المجتمع فيها لكشف الحقيقة والبدء بمرحلة بناء بأسس جديدة، إن غياب مبدأ المحاكمات من الممكن له أن يؤدى إلى زعزعة الثقة فى الدولة والقانون.

ثالثاً، التعويض: وهذا يستلزم التعويض بشقيه المادى والمعنوى، على السلطة الجديدة توفير الفرص اللازمة لتعويض الضحايا وعائلاتهم والرواتب الشهرية لمن فقد معيل أسرته على أيدى النظام البائد، وتوفير السكن لمن شرّد بغير وجه حق، وغيرها من التعويضات المادية كل حسب حالته. ولا يقل التعويض المعنوى أهمية عن المادى حيث يأتى بأشكال عدة من ضمنها إعادة التأهيل النفسى، والاعتذار الشفوى والمكتوب، والاعتراف بما جرى فى الماضى وتوثيقه، وإيجاد رموز تعبر عن معاناة ضحايا النظام وعائلاتهم مثل بناء نصب تذكارى لضحايا النظام، وتسمية شوارع أو أماكن عامة بأسمائهم، وإقامة متحف تجمع فيه صور وأسماء الضحايا.

رابعاً، الإصلاح المؤسسى: عندما يمارس نظام حكم القمع باتجاه معارضيه ويرتكب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان فعادة ما تكون مؤسسات الدولة متورطة بشكل أو بآخر،  الدولة مطالبة فوراً بإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والإصلاح المؤسساتى، فالمطلوب هنا هو تغيير بنيوى فى جهاز الدولة وذلك حتى تمنع تكرار مثل هذه الممارسات فى المستقبل.

إلا أن العدالة الانتقالية بعد ثورة تتطلب منا نظر بصير وبحث دقيق يتعلق بالحالة الثورية وضرورة أن تشكل آليات للعدالة الانتقالية تتفق مع أهداف هذه الثورة وتتوافق مع أشواقها وآمالها، هذا الأمر يتطلب النظر إلى العدالة الانتقالية باعتبارها حزمة من الإجراءات تحقق أهداف الثورة من جهة وتحفظ لحمة الجماعة الوطنية وتماسكها فى إطار يجعل من العدل عنوانه وأساسا لإقامة ميزان المجتمع والدولة معا.

●●●

ومن هنا فإن ارتباط العدالة الانتقالية بالضلع الثانى من العدالة وهو العدالة الجزائية فى إطار ما يستند إليه من مبدأ القصاص إنما يشكل حالة ابتدائية وتأسيسية فى هذه العدالة الانتقالية لا يجوز ولا يمكن التنازل عنها، ذلك أن القصاص هو ميزان العدل فى مجتمعات تجعل من حرمة النفوس والحرمات قصاص، تحفظ المجتمع وتحفظ الدولة وتحفظ الثورة.

ويستكمل هذا المسار بضلع ثالث من العدالة هى العدالة الحقوقية فى إطار يحفظ ميزان الحقوق والواجبات بما يضمن العدل بين الفئات والدرجات والطبقات ليؤكد بذلك أن الحقوق ترتبط بالإنسان تأسيسا وبالمواطن سياسة واقتصادا فيعبر عن معان يتعلق بالمساواة فى الحقوق والواجبات، الدستور عنوان الحقوق ومختبر قيم المساواة والحرية والعدل، والتعاقد المجتمعى المعبر جوهر الجماعة الوطنية ونظامها العام ورضاها التام.

●●●

ويتوج هذا المربع بنوع رابع من العدالة يجب ألا يغرب عن بالنا بما حملته الثورة من شعار يطالب بالعدالة الاجتماعية التى تجعل فى قمتها عدالة التوزيع وخرائط التمثيل بما يحقق إطارا اقتصاديا ومجتمعيا يحقق الأمن، وينقل الإنسان من حد الكفاف إلى حد الكفاية.

العدالة الاجتماعية كما يؤكد الأستاذ القدير الدكتور إبراهيم العيسوى هى تلك الحالة التى ينتفى فيها الظلم والاستغلال والقهر والحرمان من الثروة أو السلطة أو من كليهما، والتى يغيب فيها الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعى وتنعدم فيها الفروق غير المقبولة اجتماعيا بين الأفراد والجماعات والأقاليم داخل الدولة، والتى يتمتع فيها الجميع بحقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية متساوية وحريات متكافئة ولا تجور فيها الأجيال الحاضرة على حقوق الأجيال المقبلة، والتى يعم فيها الشعور بالإنصاف والتكافل والتضامن والمشاركة الاجتماعية، والتى يتاح فيها لأفراد المجتمع فرص متكافئة لتنمية قدراتهم وملكاتهم ولإطلاق طاقاتهم من مكامنها ولحسن توظيف هذه القدرات والطاقات بما يوفر لهؤلاء الأفراد فرص الحراك الاجتماعى الصاعد، وبما يساعد المجتمع على النماء والتقدم المستدام، وهى أيضا الحالة التى لا يتعرض فيها المجتمع للاستغلال الاقتصادى وغيره من آثار التبعية لمجتمع أو مجتمعات أخرى، ويتمتع بالاستقلال فى القرارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ترتبط ركائز العدالة الاجتماعية بتوفير الحد الأدنى من الحاجات لكل الناس، أما القطاعات فتخص الأساسيات، من حق فى التشغيل والتعليم والصحة والسكن، وابتداء، فلا بد من تعيين الاعتداء المهول الذى لحق بتلك الاساسيات،  عمداً أو بالإهمال والتجاهل، (ومؤداها واحد)، بمقابل توفير حاجات قلة من الناس، أو هندسة الأمور لتمكين تلك القلة من توفير حاجاتها.

والعدالة فى الأجور هى المنطلق الأول لبناء لبنات التماسك الداخلى الذى ينميه شعور المواطن بعدالة توزيع الثروات وكفاية الأجور للمتطلبات الضرورية التى توفر الكرامة الإنسانية، والدولة بحكم صفتها التمثيلية عن إرادة الأمة مؤتمنة على تحقيق هذه المطالب المشروعة من خلال النهوض بمستوى القوانين الاجتماعية التى تكفل للمستضعفين من الأجراء والعمال والموظفين حماية قانونية تضمن لهم حقوقهم فى التشغيل الذى يمكنهم من الشعور بالكرامة الإنسانية لكل إنسان، وجعلها من أهم مرتكزات الاستقرار والتماسك الداخلى فى بناء المجتمع.

ابن خلدون يرى أن «العمران البشرى لا يتحقق إلا فى ظل العدل الاجتماعى، لأن الظلم مؤثر فى السلوك البشرى يضعف النفس ويجعل مزاجها مريضا واهنا، ويهدم قيم الخير فى الطبيعة النفسية، ويؤدى ذلك إلى الانقباض عن الكسب وذهاب الآمال فى تحصيل الأموال، فيقعد الناس عن الأعمال والكسب وتكسد مجالات العمران، ويخرج السكان من الأمصار، فيؤدى ذلك إلى تراجع العمران وفساد الإنسان».

●●●

إن التساند بين أضلاع مربع العدالة (العدالة الانتقالية، والجزائية، والحقوقية، والاجتماعية) إنما يشكل عنوان الفاعلية لمرفق العدالة وترجمة كل ذلك لحزمة من السياسات العامة، والخيارات والقرارات  والغاية من إمضائها كآلية مجتمعية واستراتيجية إصلاحية، ألم نؤكد منذ البداية مع ابن خلدون «أن العدل أساس الملك»، وغاية العمران، وحماية للكيان وقدرات الإنسان، إن ثورة 25 يناير حينما تؤكد على مسار العدالة إنما تجعل منها قيمة وآلية وسياجا يحمى مكتسبات الثورة وأهدافها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق