يعتبر المصريون اليوم الذى أصدر فيه البابا غبريال الثانى، بطريرك الكنيسة القبطية (1131م - 1145م)، أمره إلى جميع الكنائس فى مصر بقراءة الأناجيل والخطب الكنسية وغيرها باللغة العربية فى الكنائس «يوماً للوطن».
فلم يكن الأمر مجرد تقريب الوجدان الإيمانى للناس باللغة التى يتعاملون بها فى حياتهم اليومية.. وهو إن كان كذلك إلا أنه أيضاً، وبالدرجة الأهم، كان توحيدا لأرجاء كل الوطن فى وجدان كل المصريين. أولئك الذين يُصلّون إلى ربهم فى المساجد وأولئك الذين يُصلّون إلى ربهم فى الكنائس. وهو ما جعل المصريين - مسلمين وأقباطاً - ينظرون إلى الكنيسة القبطية على أنها ليست كنيسة للأقباط فقط ولكن لكل الوطن.. وبطريرك الكنيسة ليس بابا للأقباط فقط ولكن لكل المصريين.
لذلك لم أندهش من متابعة المصريين لإجراءات انتخاب البابا الجديد للكنيسة متابعة اهتمام وانتباه.
فسمعنا من يتحدث عن البابا كيرلس السادس بمدرسته الروحانية العتيدة داخل وخارج الكنيسة.
وسمعنا من يتحدث عن الأب متى المسكين فخر الرهبنة فى تاريخ الكنائس الشرقية، أو المثال المضىء فى تاريخ الرهبنة كما وصفه البابا شنودة رغم ما كان بينهما من خلاف.. وغير سيرة الرهبنة فسيرته الفكرية فى مؤلفاته الكبرى التى تعد مرجعاً لاهوتياً لكل الأرثوذكس فى كل العالم فخر لكل المصريين.
وسمعنا أيضاً من يتحدث عن أهمية استعادة الدور المهم للمجلس الملى فى المجال العام، وهو الدور الذى تضاءل خلال العقود الماضية بعد أن كان على رأسه كبار رجالات الأقباط أمثال بطرس باشا غالى، وحبيب بك المصرى، والدكتور إبراهيم المنياوى باشا، ونقيب المحامين كامل يوسف، والمستشار إسكندر حنا مع كل التقدير والاحترام للدكتور ثروت باسيلى وكيله الحالى.
وأنا أنظر باحترام وإعجاب لمبادرة بطرس باشا غالى حين ذهب إلى الخديو إسماعيل عام 1874 وطالبه بإصدار قرار إنشاء «المجلس الملى» وهو ما وافق عليه الخديو توفيق فى الحال وأمر بتشكيله وكلفه (المجلس) بوضع لائحته الداخلية وتحديد اختصاصاته.
كان من الممكن أن يعتبر بطرس غالى هذا الأمر شأنا داخليا يتعلق بتنظيم شؤون الأقباط يتمونه فيما بينهم ولكن سعة أفقه السياسى والتاريخى والوطنى جعلته يناقش الأمر أولاً مع رأس السلطة فى مصر.
ومن جانبه كان الخديو أكثر دراية وفهماً لطبائع الأمور فبعد أن أصدر أمر تشكيله كلفه بإصدار لائحته الخاصة وتحديد اختصاصاته.
هذه المبادرة تعكس الإيجابية والتفاعل اللذين كان يحيا بهما الأقباط فى الوطن. والمبادرة فى حد ذاتها وإن كانت تتعلق بشأن ملى خاص إلا أنها تمت فى سياق وطنى عام. وأنا أدعو كل إخواننا الأقباط إلى ألا يقف بهم تطور الأمر عند شكله الحالى بل عليهم أن يبدعوا فى كل ما يدفع بالأمور إلى الأفضل والأحسن، وها هى مبادرة تكوين المجلس الملى نموذجاً تاريخياً يشهد بذلك. ولعل المرحلة التاريخية التى يمر بها الوطن تفتح أفق التفكير إلى ما يشابه ذلك.. تحقيقاً للأصلح لهم وللوطن.
اليوم والمصريون جميعا ينتظرون اختيار البطريرك الجديد للكنيسة.. أود أن أسجل عدداً من النقاط بهذا الشأن:
■ أقباط مصر قطعة من قلب الوطن وصورة عظيمة لوحدة الوطن وصلابته وتماسكه عبر التاريخ..
نتعلم ذلك فى المدارس كمواطنين متساوين فى الحق والواجب.. ويبلغ أروع وأصدق تجلياته فى «الجيش العظيم».. تحت راية واحدة وعلم واحد فى وطن واحد، وأذكر هنا كلمات شاعر مصر الكبير فاروق جويدة «رسمنا على القلب وجه الوطن نخيلا ونيلا وشعبا أصيلا».
وكنت قد أصدرت عام 2005 بياناً بعنوان «رب واحد ووطن واحد» قلت فى جزء منه موجهاً حديثى لإخوتنا الأقباط، وكان النظام السابق يحتجزهم خلف أسوار الكنيسة بعيدا عن المجتمع كورقة يتلاعب بها نظامه الأمنى - قلت إن هذا الوطن وطنكم، وهذه الأرض أرضكم، وهذا النيل نيلكم، لا تسمعوا لمن يريد عزلكم خلف الأسوار ليحجب صوتكم ويعلو صوته.. تاريخنا معاً يقول غير ذلك.. تاريخنا معا يقول: رب واحد ووطن واحد..
تقدموا لتكونوا فى طليعة هذا الشعب فى هذا الوقت الخطر ولنردد معا «رب واحد ووطن واحد».
وها أنا وبعد كل هذا السنوات، وبعد أن أنقذ الله الوطن من الاستبداد والظلم والفساد أنادى إخوتنا الأقباط بنفس النداء وأتوجه إليهم بنفس الخطاب.. ولئن كانت هناك صعوبات دونها صعوبات الماضى..
الذى مضى وولى.. فها هو الحاضر قبل المستقبل يفتح أياديه لنا منتظراً منا الاستحقاق الذى يليق بهذا الشعب العظيم وهذا الوطن العزيز: وحدة وقوة ومشاركة جامعة وتأثيراً فاعلاً فى نفض غبار الماضى الأليم عن وجه الوطن ليعود له عزه وقوته ومنعته بين النيل والنخيل والشعب الأصيل.
■ عانينا جميعا كمصريين طوال العهود السابقة قبل الثورة من الاضطهاد والتمييز.. وتساوت معاناتنا فى ذلك مسلمين وأقباطاً.. وهو ما يجعلنا أكثر قوة ورفضاً لأى شكل من أشكال التمييز وغياب المساواة.
مصر بعد الثورة هى وطن لكل أهله، والدولة بعد الثورة هى دولة لكل شعبها. وأنا أسمع من إخوتنا الأقباط شكوى أعلى صوتاً تتعلق بتطبيقات المساواة والمواطنة على نحو لا يرضيهم..وأنا أتفهم ذلك وأرى أن فساد المناخ العام السياسى والثقافى والتعليمى هو السبب فى كل ذلك.. لا الإسلام ولا المسلمون.
وأنقل عن البابا شنودة بهذا الصدد نصوصاً من محاضرة له قال فيها: «إن الخير الذى عمله عمر بن الخطاب لم يمت بموته إطلاقا ولايزال حيا الآن يملأ الآذان ويملأ الأذهان ويحيا مع الناس على مدى الأزمان».
قال ذلك متحدثاً عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ثانى الخلفاء الراشدين، وقال فيها أيضاً: «إن تاريخ الإسلام فى السماحة والعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين يشهد بعظمة الإسلام فى التعامل مع غير المسلمين وقدم الصور الرائعة لواقع هذا التاريخ ووقائعه منذ صدر الإسلام وعبر مراحل هذا التاريخ».
ومما قاله هذا الحبر الكبير أيضاً: «فى تلك العصور التاريخية نجد تمازجاً قد حدث بين المسلمين والمسيحيين، وظل هذا التمازج ينمو شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى حالة من الوحدة. فلنا فى التاريخ الإسلامى صداقات كثيرة بين حكام المسلمين والمسيحيين، ونراهم قد اعتمدوا عليهم فى ميادين عدة لعل من أبرزها التعليم والطب والهندسة والأمور المالية».
فالتاريخ الإسلامى، بشهادة البابا شنودة، قد صنع نسيجا واحدا امتزج فيه المسلمون والمسيحيون، ووصلت علاقات الحكام المسلمين بالمسيحيين إلى أعلى مستويات الوحدة والثقة والحب.. نقاء المناخ السياسى والثقافى والتعليمى كفيل بتحقيق كل معانى وأشكال المساواة والمواطنة الكاملة.. وأنا أدعو إخواننا الأقباط أن ينتظروا قليلا ولنضع جميعاً الحصان أمام العربة كما يقال.. وسنرى جميعا وسيرى العالم كله مصر القوية العظيمة.
■ يتطلع المصريون جميعا إلى تقوية وتعظيم الدور الروحى الرفيع الذى كانت تتميز به الكنيسة القبطية عبر تاريخها.. ولعل نسبة التصويت فى الانتخابات التى تمت قبل القرعة تعكس ما ينشده الأقباط.. فسمعة الأنبا رافائيل وشهرته فى ذلك معروفة للجميع كما أن تلمذته على يد الحبر الكبير الأنبا موسى سيكون لها دور كبير فى مهمته إذا قدر له أن يكون البطريرك القادم.
ولعل المصريين جميعاً لايزالون إلى الآن يذكرون البابا كيرلس السادس وعظاته الروحية التى مازالت إلى الآن تتلى فى الكنائس وإلى الآن أرى صورته معلقة على جدران المحال والمتاجر وفى البيوت.
الجانب الأخلاقى الروحانى فى الدين المسيحى جلى وواضح، وكلنا نعلم أن بعثة السيد المسيح كانت لتقويم بنى إسرائيل أخلاقياً بالأساس، وهم الذين قست قلوبهم وفسدت أخلاقهم، فكانت رسالته عليه السلام ليقيم سلطانا روحيا فى الأرض بعظاته ومواقفه العظيمة.. يبشر المساكين ويشفى منكسرى القلوب وينادى للمأسورين بالانطلاق وللعمى بالبصر وليرسل المنسحقين إلى الحرية.. وينادى بالتطويب للودعاء والمتسامحين «طوبى للودعاء..فإنهم يرثون الأرض».
إن مصر الآن أحوج ما تكون إلى بعث أخلاقى جديد.. فالفساد الذى عمَّ البلاد وملأ الوطن ما كان ليكون إلا بفساد الأخلاق والضمير أولا وأخيرا.
وما من نبع أكثر فيضاً وأعظم وفراً وأسمح عطاء للأخلاق من نبع الدين.. هكذا كانت المسيحية وهكذا هو الإسلام.
هكذا كانت رسالة المسيح عليه السلام، وهكذا كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذى قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
وسبحان الله الذى خلق كل شىء فقدره تقديراً.. ها هو الوطن كله يشهد ميلادا جديدا فى كل شىء.
وصدق من قال إن التاريخ تطور إنسانى زاحف لا راد لسيره.
هذا التاريخ ماض بالحياة إلى أهداف وغايات جديدة دائما..تفرض نفسها بقوة الإيمان بالله خالق كل شىء.. وبقوة المؤمنين بهذه الأهداف وبالضرورة التاريخية التى هيأت وأهابت بهذا الجديد ليأتى.. فأتى.
ويا ويل من يقف فى وجه الضرورة التاريخية حين تأتى بالجديد وتذهب بالقديم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق