بالإضافة إلى السعى وراء أسباب مغفرة الذنوب فقد كنت محتاجاً بشدة إلى الحج هذا العام لحاجتى إلى صفاءٍ روحىٍّ يُذهب قساوة القلوب، واسترخاءٍ ذهنى يعين على تجديد النشاط.
ثم إنى قد مارست هوايتى فى التعرف على ألوان وأجناس من البشر مختلفة، أرى فى ذلك متعة خاصة تضاف إلى فوائد الحج وطرائفه، فكنت أصافح الوجوه وأسلم على الأيادى، وودت لو استطعت أن أحتوى كل الحجيج بين ذراعىّ، فرائحة عرقهم كانت فى أنفى كعبير ألف زهرة، وتلبيتهم وتكبيرهم كانت تملأ أذنىّ وتتغلغل فى أعماق روحى لتعطينى نشوة لا تحدثها أعظم الألحان.
استرقت السمع للهجات دعاء مختلفة تحاول جاهدة تقليد العربية فما تملك إلا أن تبتسم أمامها، غير أنك تستشعر من ورائها إخلاصاً غريباً سرعان ما تنقلب به ابتسامتك دموعاً، ورأيت نساء بلغن من الكبر عتياً حتى انحنت ظهورهن وسقطت أسنانهن، عندهن من الإصرار على تأدية المناسك ما يعجز عنه أولو القوة والفتوة من الشباب.
رأيت هنا أن كل مواثيق حقوق الإنسان لم تكن لتطمح فى مساواة حقيقية بين أجناس البشر بصورة أعظم مما رأيت، بعيداً عن المتاجرة أو العواطف الباردة؛ حيث يصطف الأسود مع الأبيض بجوار التركى والآسيوى، كلهم يلبس نفس الإحرام ويؤدى ذات المناسك، لا تميز العين غنيهم من فقيرهم ولا شريفهم من ضعيفهم.
وهذا شيشانى استوقفنى يعطينى «سواكاً» وهو لا يعرف من العربية حرفاً واحداً، وسائق كشميرى ما إن تعرف على هويتنا المصرية حتى انطلق فى حماس يحدثنا عن مرسى وعن ما يواجهه من متاعب، واستوقفنى عرب ومصريون لا أحصيهم كثرة، كلهم يسأل عن أخبار مصر بشغف وقلق ويدعو لنا بالثبات والسداد ويعرض خدماته بإخلاص، وبصفة عامة كنت أنا الشغوف بمعرفة أحوال غير العرب وتلمّس أخبارهم، فأصافح التركى وأبتسم فى وجه الإندونيسى وأداعب الأفريقى وأسألهم جميعاً عن بلادهم وخبر المسلمين فيها. وفى أثناء كل ذلك كنت أرى الهوية الإسلامية واضحة فى سمت وهيئة أبناء شعوب عانت من التغريب كثيراً. ولاحظت أن بعض الشعوب لديها استعداد وميل فطرى للتنظيم وبعضهم تغلب عليه العشوائية فتظهر بوضوح أثناء الطواف والتنقل من منسك إلى آخر.